فصل: تفسير الآيات رقم (116 - 118)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏116 - 118‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏

هذا أيضًا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏‏؟‏ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد‏.‏ هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏}‏ وقال السُّدِّي‏:‏ هذا الخطاب والجواب في الدنيا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ هذا هو الصواب، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا‏.‏ واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الكلام لفظ المضي‏.‏

والثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ‏}‏ و‏{‏إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏

وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي، ليدل على الوقوع والثبوت‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏}‏ الآية‏:‏ التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات‏.‏

والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم‏:‏ أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة‏.‏ وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله، مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة، قال‏:‏ سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يُدْعَى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه، فيقِر بها، فيقولُ‏:‏ ‏{‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ ثم يقول‏:‏ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏‏؟‏ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون‏:‏ نعم، هو أمرنا بذلك، قال‏:‏ فيطول شعر عيسى، عليه السلام، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده‏.‏ فيجاثيهم بين يدي الله، عز وجل، مقدار ألف عام، حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار‏"‏، وهذا حديث غريب عزيز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل، كما قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن أبي هريرة قال‏:‏ يلقى عيسى حجته، ولقَّاه الله في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏‏؟‏ قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ أي آخر الآية‏.‏

وقد رواه الثوري، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن طاوس، بنحوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏ أي‏:‏ إن كان صَدَرَ مني هذا فقد علمته يا رب، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ‏}‏ بإبلاغه ‏{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا هو الذي قلت لهم، ‏{‏وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم، ‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏

قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا شُعْبَة قال‏:‏ انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان فأملاه علي سفيان وأنا معه، فلما قام انتسخت من سفيان، فحدثنا قال‏:‏ سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله، عز وجل، حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده، وإن أول الخلائق يُكْسى إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول‏:‏ أصحابي‏.‏ فيقال‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك‏.‏ فأقول كما قال العبد الصالح‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ فيقال‏:‏ إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم‏"‏‏.‏

ورواه البخاري عند هذه الآية عن الوليد، عن أبي شعبة -وعن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏ ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن فُضَيْل، حدثني فُليَت العامري، عن جَسْرة العامرية، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال‏:‏ صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ فلما أصبح قلت‏:‏ يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إني سألت ربي، عز وجل، الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا‏"‏‏.‏

طريق أخرى وسياق آخر‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، حدثنا قُدَامة بن عبد الله، حدثتني جَسْرة بنت دجاجة‏:‏ أنها انطلقت معتمرة، فانتهت إلى الربذة، فسمعت أبا ذر يقول‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلي، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه، فقمت عن يمينه‏.‏ ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو‏.‏ وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة‏.‏ فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود‏:‏ أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة‏؟‏ فقال ابن مسعود بيده‏:‏ لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال‏:‏ ‏"‏دعوت لأمتي‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ فماذا أَجِبْتَ‏؟‏ -أو ماذا رُدَّ عليك‏؟‏ -قال‏:‏ ‏"‏أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلْعة تركوا الصلاة‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ أفلا أبشر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى‏"‏‏.‏ فانطلقتُ مُعْنقًا قريبًا من قَذْفة بحجر‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نَكَلوا عن العبادة‏.‏ فناداه أن ارجع فرجع، وتلك الآية‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ فرفع يديه فقال‏:‏ ‏"‏اللهم أمتي‏"‏‏.‏ وبكى، فقال الله‏:‏ يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله‏:‏ ما يبكيه‏؟‏ فأتاه جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله‏:‏ يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل‏:‏ إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا ابن هُبَيْرة أنه سمع أبا تميم الجَيْشاني يقول‏:‏ حدثني سعيد بن المسيب، سمعت حذيفة بن اليمان يقول‏:‏ غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نَفْسه قد قبضت فيها، فلما رفع رأسه قال‏:‏ ‏"‏إن ربي، عز وجل، استشارني في أمتي‏:‏ ماذا أفعل بهم‏؟‏ فقلت‏:‏ ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك‏.‏ فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال‏:‏ لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفًا، مع كل ألف سبعون ألفا، ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليّ فقال‏:‏ ادع تُجب، وسل تُعْطَ‏"‏‏.‏ فقلت لرسوله‏:‏ أومعطي ربي سؤلي‏؟‏ قال‏:‏ ما أرسلني إليك إلا ليعطيك، ولقد أعطاني ربي ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمشي حيًا صحيحًا، وأعطاني ألا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيّب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيرًا مما شُدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119 - 120‏]‏

‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين، الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه، عز وجل، فعند ذلك يقول تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس يقول‏:‏ يوم ينفع الموحدين توحيدهم‏.‏

‏{‏لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون، رضي الله عنهم ورضوا عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا فقال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجُّ، حدثنا المحاربي، عن لَيْث، عن عثمان -يعني ابن عُمَيْر أبو اليقظان -عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثم يتجلى لهم الرب تعالى فيقول‏:‏ سلوني سلوني أعطكم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فيسألونه الرضا، فيقول‏:‏ رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني أعطكم‏.‏ فيسألونه الرضا‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏فيشهدهم أنه قد رضي عنهم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ أي‏:‏ هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏61‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرف فيها القادر عليها، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير له ولا وزير، ولا عديل، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، فلا إله غيره ولا رب سواه‏.‏

قال ابن وَهْب‏:‏ سمعت حُيَيّ بن عبد الله يحدث، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عَمْرو قال‏:‏ آخر سورة أنزلت سورة المائدة‏.‏

‏[‏بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله‏]‏

تفسير سورة الأنعام

‏[‏وهي مكية‏]‏

قال العَوْفيّ وعِكْرمة وعَطاء، عن ابن عباس‏:‏ أنزلت سورة الأنعام بمكة‏.‏ وقال الطبراني‏:‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجّاج بن مِنْهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال‏:‏ نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت‏:‏ نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة ‏[‏واحدة‏]‏ وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة

وقال شريك، عن ليث، عن شهر، عن أسماء قالت‏:‏ نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض‏.‏ وقال السُّدِّي عن مُرَة، عن عبد الله قال‏:‏ نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من الملائكة‏.‏ وروي نحوه من وجه آخر، عن ابن مسعود‏.‏

وقال الحاكم في مستدركه‏:‏ حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي، أخبرنا جعفر بن عَوْن، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر قال‏:‏ لما نزلت سورة الأنعام سَبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏"‏لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ صحيح على شرط مسلم

وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا محمد بن معمر، حدثنا إبراهيم بن دُرُسْتُويه الفارسي، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي، عن نافع بن مالك أبي سهيل، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة، سَد ما بين الخَافِقَين لهم زَجَل بالتسبيح والأرض بهم تَرْتَجّ ‏"‏، ورسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ يقول‏:‏ ‏"‏سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم ‏"‏

ثم روى ابن مَرْدُوَيه عن الطبراني، عن إبراهيم بن نائلة، عن إسماعيل بن عمرو، عن يوسف بن عطية، عن ابن عَوْن، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏نزلت عَلَيّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشَيَّعَها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد ‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏

يقول الله تعالى مادحًا نفسه الكريمة، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارًا لعباده، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم، فجمع لفظ ‏"‏الظلمات‏"‏ ووحَّد لفظ النور‏"‏؛ لكونه أشرف، كما قال ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏، وكما قال في آخر هذه السورة ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ ومع هذا كله كفر به بعض عباده، وجعلوا معه شريكًا وعدلا واتخذوا له صاحبةً وولدًا، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا، فانتشروا في المشارق والمغارب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ قال سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا‏}‏ يعني‏:‏ الموت ‏{‏وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ يعني‏:‏ الآخرة‏.‏

وهكذا رُوي عن مجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، والحسن، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، وعطية، والسُّدِّي، ومُقاتِل بن حَيَّان، وغيرهم‏.‏

وقول الحسن -في رواية عنه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا‏}‏ قال‏:‏ ما بين أن يخلق إلى أن يموت ‏{‏وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ ما بين أن يموت إلى أن يبعث- هو يرجع إلى ما تقدم، وهو تقدير الأجل الخاص، وهو عمر كل إنسان، وتقدير الأجل العام، وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها، ‏[‏وانتقالها‏]‏ والمصير إلى الدار الآخرة‏.‏

وعن ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا‏}‏ يعني‏:‏ مدة الدنيا ‏{‏وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ يعني‏:‏ عمر الإنسان إلى حين موته، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ ‏[‏يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏]‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وقال عطية، عن ابن عباس ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا‏}‏ يعني‏:‏ النوم، يقبض فيه الروح، ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة ‏{‏وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ يعني‏:‏ أجل موت الإنسان، وهذا قول غريب‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏عِنْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ لا يعلمه إلا هو، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، وكقوله ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42 -44‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ‏}‏ قال السُّدِّي وغيره‏:‏ يعني تشكون في أمر الساعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة الأول القائلين بأنه -تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا- في كل مكان؛ حيث حملوا الآية على ذلك، فأصح الأقوال أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض، أي‏:‏ يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏، أي‏:‏ هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وعلى هذا فيكون قوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ خبرًا أو حالا‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، من سر وجهر‏.‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ‏}‏ متعلقًا بقوله‏:‏ ‏{‏فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ‏}‏ تقديره‏:‏ وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون‏.‏

والقول الثالث أن قوله ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ‏}‏ وقف تام، ثم استأنف الخبر فقال‏:‏ ‏{‏وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ وهذا اختيار ابن جرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ جميع أعمالهم خيرها وشرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 6‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين المكذبين المعاندين‏:‏ إنهم مهما أتتهم ‏{‏مِنْ آيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ دلالة ومعجزة وحجة، من الدلالات على وحدانية الرب، عَزَّ وجل، وصدق رسله الكرام، فإنهم يعرضون عنها، فلا ينظرون فيها ولا يبالون بها‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدُنَّ غبه، وليذوقُنَّ وَباله‏.‏

ثم قال تعالى واعظًا ومحذرًا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة، وأكثر جمعًا، وأكثر أموالا وأولادًا واستغلالا للأرض وعمارة لها، فقال ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأموال والأولاد والأعمار، والجاه العريض، والسعة والجنود، ‏{‏وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا‏}‏ أي‏:‏ شيئًا بعد شيء، ‏{‏وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض، أي‏:‏ استدراجًا وإملاء لهم ‏{‏فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها، ‏{‏وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث، ‏{‏وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ جيلا آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فهلكوا كهلاكهم‏.‏ فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم ‏[‏مثل‏]‏ ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم، لولا لطفه وإحسانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 11‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًاً عن كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عاينوه، ورأوا نزوله، وباشروا ذلك ‏{‏لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن مكابرتهم للمحسوسات‏:‏ ‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 14، 15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 44‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ فيكون معه نذيرا‏]‏ قال الله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏، ‏[‏و‏]‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ‏[‏وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا‏]‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولو أنزلنا مع الرسول البَشَرِيّ ملكًا، أي‏:‏ لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيًا لكان على هيئة رجل لتُفْهَم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 95‏]‏، فمن رحمة الله تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم، ليدعو بعضهم بعضا، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏

قال الضحاك، عن ابن عباس في ‏[‏قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا‏}‏‏]‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولخلطنا عليهم ما يخلطون‏.‏ وقال الوالبي عنه‏:‏ ولشبهنا عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ هذا تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ فكروا في أنفسكم، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم، من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا، مع ما ادَّخَر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نَجَّى رسله وعباده المؤمنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 16‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ‏}‏

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة، كما ثبت في الصحيحين، من طريق الأعْمَش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم ‏[‏وهو يوم القيامة‏]‏ الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون‏.‏

وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني، عن الزبير بن شَبِيب، عن عثمان بن حاضر، عن ابن عباس قال‏:‏ سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين، هل فيه ماء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏والذي نَفْسِي بيَدِه، إن فيه لماءً، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء، ويَبْعَثُ الله تعالى سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار، يَذُودون الكفار عن حياض الأنبياء‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب وفي الترمذي‏:‏ ‏"‏إن لكل نبي حَوْضًا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏أي يوم القيامة‏]‏ ‏{‏فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ أي‏:‏ كل دابة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، ولا إله إلا هو، ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ أي‏:‏ السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم‏.‏

ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه المستقيم‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ كَمَا قَالَ ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏، والمعنى‏:‏ لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي‏:‏ خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق‏.‏

‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ‏}‏ أي‏:‏ وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ *‏[‏مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏]‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56 -58‏]‏‏.‏ وقرأ بعضهم هاهنا‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ‏}‏ الآية أي‏:‏ لا يأكل‏.‏

وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فانطلقنا معه، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال‏:‏ الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم، ومَنَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا، الحمد لله غير مُودّع ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبَصَّرنا من العَمَى، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين‏"‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ أي‏:‏ من هذه الأمة ‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب ‏{‏يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ‏}‏ يعني‏:‏ فقد رحمه الله ‏{‏وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏، والفوز‏:‏ هو حصول الربح ونفي الخسارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 21‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا مُعَقِّب لحكمه، ولا رَادَّ لقضائه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏اللهم لا مانع لِما أَعْطَيْت، ولا معطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ‏"‏ ؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره

‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ‏}‏ أي‏:‏ في جميع ما يفعله ‏{‏الْخَبِيرُ‏}‏ بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً‏}‏ أي‏:‏ من أعظم الأشياء ‏[‏شهادة‏]‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هو العالم بما جئتكم به، وما أنتم قائلون لي‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ أي‏:‏ وهو نذير لكل من بلغه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم -زاد أبو خالد‏:‏ وكَلّمه‏.‏ ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب قال‏:‏ من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله‏"‏‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر كالذي أنذر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ أيها المشركون ‏{‏أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 150‏]‏، ‏{‏قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب‏:‏ إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه وصفتة، وبلده ومُهَاجَرِه، وصفة أمته؛ ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ خسروا كل الخسارة، ‏{‏فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا أظلم ممن تَقَوَّل على الله، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، ‏{‏إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 26‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا‏}‏ يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا ‏[‏لهم‏]‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ كما قال تعالى في سورة القصص‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ حجتهم‏.‏ وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس‏:‏ أي‏:‏ معذرتهم‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏ وقال ابن جريج، عن ابن عباس‏:‏ أي قيلهم‏.‏ وكذا قال الضحاك‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا ‏{‏إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏

وقال ابن جرير‏:‏ والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ‏{‏إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال‏:‏ أتاه رجل فقال يا أبا عباس‏.‏ سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ قال‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا‏:‏ تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في قلبك الآن شيء‏؟‏ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه‏.‏ وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ هذه في المنافقين‏.‏

وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ ‏[‏كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏]‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 18‏]‏، وهكذا قال في حق هؤلاء‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ كَمَا قَالَ ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ‏[‏بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ‏]‏ ‏[‏غافر‏:‏ 73، 74‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا‏}‏ أي‏:‏ يجيؤوك ليسمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئًا؛ لأن الله جعل ‏{‏عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أي‏:‏ أغطية لئلا يفقهوا القرآن ‏{‏وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ أي‏:‏ صمما عن السماع النافع، فَهُم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً ‏[‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا‏}‏ أي‏:‏ مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات،لا يؤمنوا بها‏.‏ فلا فَهْم عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ ‏[‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏]‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ‏}‏ أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل ‏{‏يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ وفي معنى ‏{‏يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، وتصديق الرسول، والانقياد للقرآن، وينسأون عنه أي‏:‏ ‏[‏ويبتعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون‏]‏ ولا يتركون أحدًا ينتفع ‏[‏ويتباعدون‏]‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ قال‏:‏ ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به‏.‏

وقال محمد بن الحنفية‏:‏ كان كفار قريش لا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وينهون عنه‏.‏

وكذا قال مجاهد وقتادة، والضحاك، وغير واحد‏.‏ وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير‏.‏

والقول الثاني‏:‏ رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في أبي طالب كان ينهى ‏[‏الناس‏]‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار‏:‏ إنها نزلت في أبي طالب‏.‏ وقال سعيد بن أبي هلال‏:‏ نزلت في عمومة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ ينهون الناس عن قتله‏.‏

‏[‏و‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ يتباعدون منه ‏{‏وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وما يشعرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏

يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالوا ‏{‏يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها، في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبل هذا بيسير ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏‏.‏ قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار، ولا ينافي هذا كون هذه ‏[‏السورة‏]‏ مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 11‏]‏؛ وعلى هذا فيكون إخبارًا عن حال المنافقين في الدار الآخرة، حين يعاينون العذاب يظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والشقاق والنفاق، والله أعلم‏.‏

وأما معنى الإضراب في قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ فَهُم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان‏.‏

ثم قال مخبرًا عنهم‏:‏ إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه ‏[‏من الكفر والمخالفة‏]‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ في قولهم‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏{‏وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ أي‏:‏ لعادوا لما نهوا عنه، إنهم لكاذبون ولقالوا‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا‏}‏ أي‏:‏ ما هي إلا هذه الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ ثم قال ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أوقفوا بين يديه قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون‏؟‏ ‏{‏قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ بما كنتم تكذبون به، فذوقوا اليوم مَسّه ‏{‏أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 15‏]‏